من المقولات التي تترنّح بين الناس في لحظات الجدّ والمزاح على حد سواء، هو المثل الشهير: «أعلى ما بخيلك اركبو!». يُقال هذا المثل عادةً عندما يريد أحدهم إظهار التحدّي أو الردّ بأسلوبٍ جريء، وكأنّما يقول للطرف الآخر: «افعل ما شئت، فأنا لا أكترث!»، وكأن المسألة تحولت إلى سباق بين خيول لا ترى سواها.
لكنّ مع هذا المثل، لا يمكن أن أنسى حكمة جدتي – رحمها الله -، التي لم تكن لتسمح بمرور هذا المثل من أمامها مرور الكرام دون أن تضيف عليه لمسة من الدعاء الصاعق! كان لديها دعاء مميز ترددُه كالسهم الذي يخرج من قوس الحكمة، فتقول: «الله يسخّم وجهك!». وهنا لا بد أن نتوقف لنتأمل المعنى العميق وراء هذا الدعاء.
«يسخّم» مأخوذة من السُّخام، وهو سواد القدر، وكانت العرب تستخدمه للدعاء على من أرادت به التقريع أو الذم، وكأنّ الوجه المُسَخَّم هو عنوان الفشل أو سوء الحظ.
تصور المشهد: أحدهم يُلقي بالمثل في وسط مشادة كلامية، قائلاً: «أعلى ما بخيلك اركبه!»، ظناً منه أنه انتصر بالكلام، لتأتي جدتي بخبرتها الطويلة لتقول له بكل هدوء وثقة: «الله يسخّم وجهك».
وهنا يتوقف الجميع، فلا يعرفون هل يضحكون من الموقف أم يذرفون الدموع على صاحب الوجه الذي قُضي عليه بالسخام!
والطريف أنّ جدتي لم تكن تتوانى عن إلقاء هذا الدعاء في كل موقف مشابه.
إذا دخل أحدهم في مشاجرة كلامية مع آخر، وبدأت الأمور تسخن، تجدها تجلس البساط المنسوج، تمسك مسبحتها، وتنظر إلى السماء، ثم تصدح: «الله يسخّم وجهك».
وكأنما كانت تُخرِج هذا الدعاء من قِدرٍ قديم معلّق في مطبخها، مغطى بالسخام الذي كاد أن يكون تراثياً!وكأنّها كانت تملك سواد القدر بين يديها، توزعه كما تشاء على من يستحق ومن لا يستحق!
رحم الله جدتي، كانت تملك تلك القدرة العجيبة على تحويل أقسى اللحظات إلى فرص للضحك والتأمل، وكأنّها تقول لنا دائمًا: «الحياة قصيرة، فلا تُكثروا من التحديات الكلامية، لأن في النهاية، قد ينتهي بك الأمر بوجه مُسخَّم دون أن تدري!».
د.عبدالله العبدالله