كانت النضيدة صندوق جدتي السري، أو كما كنتُ أسمّيها “بنك جدتي الإسلامي”. هي ليست مجرد طاولة، بل عالم صغير مليء بالكنوز، مكوّنة من بضع ليرات قديمة مدحوشة بحنكة بين اللحف، كأنها تُخزّن فيها ذكريات الزمن الجميل.
النضيدة، تلك الطاولة التي بالكاد تتسع لطول الغرفة، كانت تحمل فوقها كل ما يمكن أن يُقال عنه “الدفء”: مخدات، بطانيات، ولحف تترتب بعضها فوق بعض حتى تصل إلى السقف، وكأنها تلمس السماء في خشوع.
وحتى تسمية “النضيدة” لم تخرج من فراغ، فقد ذُكرت في القرآن الكريم: ﴿وَٱلنَّخۡلَ بَاسِقَـٰتࣲ لَّهَا طَلۡعࣱ نَّضِیدࣱ﴾ [ق ١٠]، بمعنى شيء منضود، مترتب بعناية، تماماً كما كانت جدتي ترتب كنوزها.
كانت جدتي رحمها الله، تتعامل مع النضيدة كحساب بنكي في عصر ما قبل البنوك، تقول لي بابتسامة ماكرة: “روح يا حبيبي على النضيدة، تلاقي تحت اللحاف الأزرق خمس ليرات، ومعاها مية ليرة، وكحل وخلخال، خذ الخمس ليرات واشتري لك ولإخوتك.”كانت هذه الكلمات كالتوقيع البنكي لسحب الرصيد.
وكنا ننطلق فرحين إلى الدكان، لنعود ونحن نحمل غنائمنا. لكن جدتي، تلك المخططة العبقرية، لم تكن تتوقف عند هذا الحد. بمجرد أن نغادر، تبدأ بعملية معقدة لتحويل “الودائع”، من اللحاف الأزرق إلى اللحاف الأحمر، وكأنها تقول: “عليكم أن تجدوا كنوزكم بأنفسكم!”كانت جدتي تعلمنا بطريقة مبتكرة ومضحكة كيف نبحث عن السعادة، وكيف نخفي ذكرياتنا الثمينة في أماكن قد لا تخطر على بال أحد.
واليوم، لم يبق لنا سوى النضيدة، ذلك التذكار الحي من أيام كانت فيها البساطة أكبر ثروة، والحب هو العملة المتداولة.
د.عبدالله العبدالله